سورة الحديد - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحديد)


        


وقوله تعالى: {مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا} ندبٌ بليغٌ من الله تعالى إلى الإنفاق في سبيلِه بعد الأمرِ به والتوبيخِ على تركِه وبيانِ درجاتِ المنفقينَ أي مَنْ ذَا الذي ينفقَ مالَه في سبيلِه تعالَى رجاءَ أنْ يعوضَهُ فإنَّه كمنْ يُقرضُه وحُسنُ الإنفاقِ بالإخلاصِ فيه وتحرِّي أكرمِ المالِ وأفضلِ الجهاتِ {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} بالنصب على جوابِ الاستفهامِ باعتبارِ المَعْنى كأنَّه قيلَ أيقرضُ الله أحدٌ فيضاعفَهُ له أي فيعطيهِ أجرَهُ أضعافاً {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي وذلكَ الأجرُ المضمومُ إليهِ الأضعافُ كريمٌ في نفسِه حقيقٌ بأنْ يتنافسَ فيه المتنافسونَ وإنْ لم يُضاعفْ فكيفَ وقد ضُوعفَ أضعافاً كثيرة. وقرئ بالرفعِ عطفاً على يقرضُ أو حملاً على تقديرِ مبتدأٍ أيْ فهُو يضاعفُه، وقرئ: {يُضعفَهُ} بالرفعِ والنصبِ.


{يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات} ظرفٌ لقولِه تعالَى وله أجرٌ كريمٌ أو لقوله تعالى فيضاعفَهُ أو منصوبٌ بإضمارٍ اذكُرْ تفخيماً لذلك اليومِ. وقولُه تعالى: {يسعى نُورُهُم} حالٌ من مفعولِ تَرَى قيلَ نورَهم الضياءُ الذي يُرَى {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم} وقيلَ: هو هُداهُم وبأيمانِهم كتبَهم أي يسعَى إيمانُهم وعملهم الصالُح بينَ أيديِهم وفي أيمانِهم كتبُ أعمالِهم، وقيلَ هو القرآنُ وعنِ ابنِ مسعودٍ رضيَ الله تعالَى عنْهُ: يُؤتَون نورَهُم على قدرِ أعمالهم فمنهُم مَنْ يُؤتى نوره كالنخلة ومنهم مَن يُؤتَى كالرجل القائمِ وأدناهُم نوراً مَنْ نورُه على إبهامِ رجلهِ ينطفىءُ تارةً ويلمعُ أُخرَى. قالَ الحسنُ: يستضيئونَ به على الصراطِ. وقال مقاتلٌ: يكونُ لهم دليلاً إلى الجنَّةِ {بُشْرَاكُمُ اليوم جنات} مقدرٌ بقولٍ هو حالٌ أو استئنافٌ أيْ يقالُ لهم بُشراكُم أي ما تبشرونَ بهِ جنَّاتٌ أو بُشراكم دخولُ جنَّاتٍ {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ذلك} أي ما ذُكرَ من النُّورِ والبُشرى بالجناتِ المخلدةِ {هُوَ الفوز العظيم} الذي لا غايةَ وراءَهُ وقرئ: {ذلكَ الفوز العظيمُ}.
{يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات} بدلٌ مِن يومَ تَرَى {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ انظرونا} أي انتظرونَا يقولونَ ذلكَ لما أنَّ المؤمنينَ يُسرَع بِهم إلى الجنَّةِ كالبرقِ الخاطفِ على ركابٍ تزفُّ بهم وهؤلاءِ مشاةٌ أو انظروا إلينَا فإنَّهم إذا نظرُوا إليهم استقبلُوهم بوجوهِهم فيستضيئونَ بالنُّورِ الذي بينَ أيديِهم. وقرئ: {أَنِظرُونا} من النَّظِرةِ وهي الإمهالُ جعلَ اتئادَهم في المُضيِّ إلى أنْ يلحقُوا بهم إنظاراً لهم {نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} أي نستضىءْ منه وأصلُه اتخاذُ القبسِ. {قِيلَ} طَرداً لهم وتهكماً بهِم من جهة المؤمنينَ أو جهة الملائكةِ {ارجعوا وَرَاءكُمْ} أي إلى الموقف {فالتمسوا نُوراً} فإنَّه من ثمَّ يُقتبسُ أو إلى الدُّنيا فالتمسُوا النورَ بتحصيل مباديِه من الإيمان والأعمالِ الصالحةِ أو ارجعوا خائبينَ خاسئينَ فالتمسُوا نوراً آخرَ وقد علمُوا أنْ لا نورَ وراءَهُم وإنما قالُوه تخييباً لهم أَوْ أرادُوا بالنورِ ما وراءَهُم من الظُّلمةِ الكثيفةِ تهكماً بهم {فَضُرِبَ بَيْنَهُم} بينَ الفريقينِ {بِسُورٍ} أي حائطٍ، والباءُ زائدةٌ {لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ} أي باطنُ السُّورِ أو البابِ وهو الجانبُ الذي يلي الجنَّةَ {فِيهِ الرحمة وظاهره} وهو الطرفُ الذي يَلي النَّارَ {مِن قَبْلِهِ} من جهتِه {العذاب} وقرئ: {فضَرَبَ} على البناءِ للفاعلِ.


{ينادونهم} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا يفعلونَ بعد ضربِ السُّورِ ومشاهدةِ العذابِ فقيلَ يُنادونَهم {أَلَمْ نَكُن} في الدُّنيا {مَّعَكُمْ} يريدونَ به موافقتَهم لهُم في الظَّاهرِ {قَالُواْ بلى} كنتُم معنَا بحسبِ الظاهرِ {ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} محنتمُوها بالنفاقِ وأهلكتمُوها {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالمؤمنينَ الدوائرَ {وارتبتم} في أمرِ الدِّينِ {وَغرَّتْكُمُ الأمانى} الفارغةُ التي من جُمْلتها الطمعُ في انتكاس أمرِ الإسلامِ {حتى جَاء أَمْرُ الله} أي الموتُ {وَغَرَّكُم بالله} الكريمِ {الغرور} أي غرَّكُم الشيطانُ بأنَّ الله عفوٌّ كريمٌ لا يُعذبكم. وقرئ: {الغُرورُ} بالضمِّ {فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} فداءٌ وقرئ: {تُؤخذُ} بالتاءِ {وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} أي ظاهراً وباطناً {مِنَ النار} لا تبرحُونَها أبداً {هِىَ مولاكم} أي أَوْلَى بكُم وحقيقتُه مكانُكُم الذي يُقالُ فيهِ هو أَوْلى بكُم كما يقالُ هو مِئْنةُ الكرمِ أي مكانٌ لقولِ القائلِ إنَّه لكريمٌ أو مكانُكم عن قريبٍ من الولِي وهو القُربُ أو ناصركُم على طريقةِ قولِه:
تحيَّةُ بينِهم ضَربٌ وَجِيْعُ ***
أو متوليكُم تتولاَّ كم كَما توليتُم موجباتِها {وَبِئْسَ المصير} أي النَّارُ. {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} استئنافٌ ناعٍ عليهم تثاقلَهُم في أمورِ الدِّينِ ورخاوةِ عقدِهم فيها واستبطاءٌ لانتدابِهم لما نُدبوا إليهِ بالترغيبِ والترهيبِ. ورُويَ أنَّ المؤمنينَ كانُوا مُجْدبين بمكةَ فلمَّا هاجرُوا أصابُوا الرزقَ والنعمةَ وفترُوا عمَّا كانُوا عليهِ فنزلتْ. وعن ابن مسعودٍ رضيَ الله عنْهُ: ما كانَ بينَ إسلامِنا وبينَ أنْ عُوتبنا بهذهِ الآيةِ إلا أربعُ سنينَ. وعنِ ابنِ عبّاسٍ رضيَ الله تعالَى عنُهمَا أنَّ الله استبطأَ قلوبَ المؤمنينَ فعاتَبهُم على رأسِ ثلاثَ عشرةَ سنةً من نزولِ القُرآنِ أيْ ألم يجىءْ وقتُ أنْ تخشعَ قلوبُهم لذكرِه تعالَى وتطمئنَ به ويسارعُوا إلى طاعتِه بالامتثال بأوامره والانتهاءِ عمَّا نُهوا عنهُ منْ غير توانٍ ولا فتورٍ منْ أنى الأمرُ إذَا جاءَ أناهُ أي وقته. وقرئ: {ألم يئِنْ} من آنَ يئينُ بمعنى أنَى، وقرئ: {ألمَّا يأنِ}، وفيهِ دلالةٌ على أنَّ المنفَي متوقعٌ. {وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} أي القرآنِ وهو عطفٌ على ذكرِ الله فإنْ كانَ هُو المرادَ به أيضاً فالعطفُ لتغايرِ العُنوانينِ فإنَّه ذكرٌ وموعظةٌ كما أنَّه حقٌّ نازلٌ منَ السماءِ، وإلاَّ فالعطفُ كما في قولِه تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءاياته زَادَتْهُمْ إيمانا} ومَعْنى الخشوعِ له الانقيادُ التامُّ لأوامره ونواهيِه والعكوفُ على العملِ بما فيهِ من الأحكامِ التي من جُمْلتها ما سبقَ وما لحقَ من الإنفاقِ في سبيلِ الله تعالى. وقرئ: {نزل} من التنزيلِ مبنياً للفاعلِ وأنزلَ {وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ} عطفٌ على تخشعَ. وقرئ بالتاءِ على الالتفاتِ؛ للاعتناءِ بالتحذيرِ، وقيلَ: هو نهيٌ عن مماثلةِ أهلِ الكتابِ في قسوةِ القلوبِ بعد أنْ وبخوا وذلك أنَّ بني إسرائيلَ كانَ الحقُّ يحولُ بينَهُم وبينَ شهواتِهم وإذَا سمعُوا التوراةَ والإنجيلَ خشعُوا لله ورقَّتْ قلوبُهم {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد} أي الأجلُ. وقرئ: {الأمدُّ} بتشديدِ الدالِ، أي الوقتُ الأطولُ وغلبهم الجفاءُ وزالتْ عنْهم الروعةُ التي كانتْ تأتيهُم من الكتابينِ {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} فهيَ كالحجارةِ أو أشدُّ قسوةً {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون} أي خارجونَ عن حدودِ دينهم رافضونَ لما في كتابِهم بالكُلِّيةِ.

1 | 2 | 3 | 4